الوصية الواجبة في القانون المغربي
تعتبر الوصية الواجبة في القانون المغربي من أهم المستجدات التي عرفها التشريع الأسري المغربي، إذ تم إدراجها لأول مرة ضمن أحكام مدونة الأحوال الشخصية ثم مدونة الأسرة، استجابة لحالات اجتماعية متكررة كان يتضرر فيها الأحفاد الذين يتوفى آباؤهم أو أمهاتهم قبل أجدادهم، فيخرجون من التركة رغم مساهمة أصولهم في تكوينها أو في إعالة الجد.
وقد استلهم المشرع المغربي أحكام الوصية الواجبة من اجتهادات فقهية وقانونية سابقة، خاصة في مصر وسوريا، مع تكييفها بما ينسجم مع خصوصيات المجتمع المغربي وأحكام الشريعة الإسلامية، ليجعل منها نظامًا قانونيًا يجبر الجد أو الجدة على اعتبار حقوق الأحفاد عند تقسيم التركة، ولو لم تصدر منهم وصية اختيارية في حياتهم.
أولا: مفهوم الوصية الواجبة في القانون المغربي
يقصد بالوصية الواجبة في التشريع المغربي أن يلتزم القانون بإعطاء فروع الابن المتوفى (الأحفاد) نصيبًا من تركة الجد أو الجدة، ولو لم يوصِ المورث بذلك صراحة، شريطة توفر شروط معينة تتعلق بالفرع (الحفيد) وبالأصل (الابن المتوفى) وبالجد أو الجدة.
فهي تسمى وصية واجبة أو وصية القانون لأن مصدر إلزامها ليس إرادة الموصي، بل إرادة المشرع الذي قام مقامه، فأوجب هذا الحق للأحفاد وجعل القضاء ينفذه عند قسمة التركة، ضمن حدود معينة أهمها ألا تتجاوز الوصية الثلث.
ثانيا: الأساس الفقهي للوصية الواجبة
استندت فكرة الوصية الواجبة في القانون المغربي إلى نقاش فقهي قديم حول مدى وجوب الوصية للأقارب غير الوارثين، انطلاقًا من قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ».
فبينما ذهب جمهور الفقهاء إلى أن هذه الآية نسخت بآيات المواريث وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث»، رأى عدد من الأئمة والفقهاء أنها لا تزال قائمة بالنسبة للأقارب غير الوارثين، وأن الوصية في حقهم واجبة ديانة أو قضاءً.
من أبرز الأسماء التي نقل عنها القول بوجوب الوصية للأقارب غير الوارثين: سعيد بن المسيب، الحسن البصري، طاووس، وبعض الروايات عن الإمام أحمد، إضافة إلى داود الظاهري، الإمام الطبري، إسحاق بن راهويه، وابن حزم الذي ذهب إلى أن للقضاء سلطة إلزام المورث بالوصية لفقراء الأقارب إذا لم يفعل.
ثالثا: الحكمة من تشريع الوصية الواجبة
ظهرت الحاجة الاجتماعية للتنصيص على الوصية الواجبة في القانون المغربي من خلال حالات متكررة في الواقع العملي، خاصة في الأوساط الفلاحية، حيث يعمل الأبناء مع آبائهم في تكوين الثروة العائلية، ثم يتوفى هؤلاء الأبناء قبل آبائهم، فيجد أحفادهم أنفسهم خارج التركة رغم أن آباءهم كانوا جزءًا من إنتاجها.
فكان من غير المنصف أن ينعم الأعمام والعمات وحدهم بالتركة، في حين يعيش الأحفاد في ضيق وحاجة، بل قد يكونون تحت كفالة الجد نفسه قبل وفاته. وهنا جاءت الوصية الواجبة لتضمن لهم حظًا من مال الجد يعوضهم عما فاتهم من ميراث أبيهم أو أمهم الذين توفوا قبله.
- تحقيق العدالة بين فروع الأسرة الواحدة.
- منع الشعور بالغبن والظلم لدى الأحفاد.
- تقدير مساهمة الأصول المتوفين في تكوين ثروة الجد.
- حماية الفئات الضعيفة داخل العائلة من التهميش بعد وفاة المعيل.
رابعا: من تجب له الوصية الواجبة في القانون المغربي؟
حصر المشرع المغربي نطاق الاستفادة من الوصية الواجبة في دائرة معينة، وهي دائرة أبناء الأبناء (أحفاد الميت من جهة الابن)، بغض النظر عن درجة نزولهم (ابن الابن، ابن ابن الابن... إلخ)، متى مات أصلهم (الأب) قبله أو معه موتًا حقيقيًا أو حكمًا.
وبذلك يكون التشريع المغربي قد:
- قصر الوصية الواجبة على أحفاد الذكور (أبناء الأبناء)، ولم يُدخل فيها أبناء البنات.
- وافق في ذلك ما عليه القانون السوري، وخالف القانون المصري الذي يوسع النطاق ليشمل أهل الطبقة الأولى من أولاد البنات أيضًا.
- انسجم مع اختياراته العامة في باب الإرث، حيث لا يورث ذوي الأرحام، ومن بينهم أبناء البنات.
كما يستفيد من الوصية الواجبة كذلك أولاد المفقود الذي حكم بموته وفق الشروط المنصوص عليها، ما دام القضاء قد اعتبره متوفى، فتقام الوصية مقام ما كان سيرثه لو عاش حتى وفاة أصله (الجد).
خامسا: شروط استحقاق الوصية الواجبة
1. عدم إرث الفرع من الجد أو الجدة
يشترط لاستحقاق الوصية الواجبة في القانون المغربي أن يكون الحفيد أو الحفيدة غير وارثين من الجد أو الجدة عند الوفاة. فإذا وجد سبب يجعل لهم نصيبًا في الإرث – ولو قليلًا – سقط حقهم في الوصية الواجبة، لأن هذه الأخيرة إنما شرعت تعويضًا عن ميراث فات.
مثال ذلك: إذا توفي شخص وترك أمًا وبنتين وأحفادًا من ابن متوفى، وكان الأحفاد يرثون عن طريق التعصيب أو الفرض، فإنهم لا يستفيدون من الوصية الواجبة، لأن حقهم ثبت عن طريق الميراث نفسه.
2. ألا يكون الجد قد أعطاهم حقهم في حياته بلا عوض
الشرط الثاني أن لا يكون المورث (الجد أو الجدة) قد منح الأحفاد في حياته مقدار ما كانوا سيستحقونه بالوصية الواجبة أو أكثر، وذلك عن طريق هبة أو عطية صحيحة بلا عوض:
- إذا أعطاهم في حياته ما يساوي نصيبهم المفترض، سقطت الوصية الواجبة.
- إذا أعطاهم أقل من نصيبهم، استكملت الوصية الواجبة الفرق.
- إذا أعطاهم أكثر من نصيبهم بلا عوض، فالزائد يعتبر تملكًا نهائيًا، ولا حاجة لإجازة الورثة، ما دام العطاء صدر حال الصحة وليس وصية بعد المرض.
- أما إذا كان العطاء في شكل وصية اختيارية بعد الموت، فإن ما زاد عن نصيبهم بالوصية الواجبة يتوقف على إجازة الورثة في حدود الثلث.
سادسا: مقدار الوصية الواجبة وكيفية احتسابها
القاعدة العامة في تحديد مقدار الوصية الواجبة في القانون المغربي هي أن: ما يستحقه الأحفاد يقدر بمقدار ما كان سيرثه أصلهم (الأب أو الأم المتوفى) من تركة الجد، على فرض أنه توفي بعده مباشرة، على ألا يتجاوز هذا المقدار ثلث التركة بعد إخراج التجهيز والديون والنفقات.
وعليه:
- إذا كان نصيب الأصل المفترض (الابن المتوفى) أقل من الثلث، أخذ الأحفاد كامل نصيب أصلهم.
- إذا كان نصيبه أكثر من الثلث، حُددت الوصية الواجبة في حدود الثلث فقط، والباقي يتوقف على إجازة الورثة إن تعلق الأمر بوصية صريحة.
- تُقسم حصة الأصل بين أحفاده على أساس قواعد الميراث: للذكر مثل حظ الأنثيين.
- إذا تعددت الفروع واختلفت أصولهم، يحجب كل أصل فرعه دون فرع غيره، ويأخذ كل فرع نصيب أصله.
بهذه الطريقة حاول المشرع أن يوازن بين اعتبار حق الأحفاد وبين عدم الإخلال بشكل جوهري بباقي أنصبة الورثة، وألا يتجاوز نصيب الأحفاد حدود الثلث الذي هو مجال الوصية في الأصل.
سابعا: تكييف الوصية الواجبة بين الإرث والوصية العادية
أثار الفقه القانوني نقاشًا حول طبيعة الوصية الواجبة في القانون المغربي، هل هي أقرب إلى الميراث أم إلى الوصية الاختيارية؟ والجواب أن لها خصائص مشتركة مع كل منهما:
1. أوجه الشبه مع الميراث
- لا تتوقف على إرادة الموصي، بل يفرضها القانون تلقائيًا.
- لا تحتاج إلى قبول من المستفيدين لقبول أصل الحق، وإنما تدخل في ذمتهم بقوة القانون.
- توزع بين الأحفاد وفق قواعد الميراث (للذكر مثل حظ الأنثيين، ومع قواعد الحجب بين الأصول والفروع).
- لا يمكن للأحفاد ردها كما يرد الموصى له الوصية الاختيارية في بعض الأحيان.
2. أوجه الشبه مع الوصية الاختيارية
- لا يمكن أن تتجاوز الثلث من التركة، وهذا قيد مشترك بين الوصية الواجبة والوصية العادية.
- تقدم على الوصايا الاختيارية عند التزاحم، لأنها حق مقرر بقوة القانون.
- لا يستحقها من كان وارثًا أصلاً، فهي في الأصل تعويض عن ميراث سقط بسبب وفاة الأصل.
من هنا اعتبر عدد من الباحثين أن الوصية الواجبة هي نظام قانوني وسط يجمع بين خصائص الإرث والوصية، دون أن يندرج بالكامل في أحدهما، فهي "ميراث قانوني في صورة وصية".
ثامنا: ملاحظات وانتقادات موجهة لنظام الوصية الواجبة
رغم أن الوصية الواجبة في القانون المغربي جاءت استجابة لحاجة اجتماعية حقيقية، إلا أن عددا من الباحثين أثاروا بعض الملاحظات والانتقادات، من بينها:
-
حصر المستفيدين في أحفاد الأبناء الذكور:
فالتشريع المغربي – كسوري – قصر الاستفادة على أبناء الأبناء، دون أن يشمل أبناء البنات، مما أثار نقاشًا حول مدى انسجام ذلك مع مقاصد العدل والتكافل الأسري، خاصة في الحالات التي تكون فيها حفيدة من بنت في حاجة شديدة. -
عدم تعميمها على الأقارب المحتاجين الآخرين:
مثل الوالدين المحرومين من الإرث لاختلاف الدين، أو الزوجة المحتاجة في نفس الحالة، مع إمكانية أن يستند المشرع إلى نفس الأساس (التعويض عن الحرمان من الإرث مع تحقق الحاجة). -
إثارة تعقيدات عملية في احتساب الأنصبة:
خاصة في الحالات التي تتعدد فيها الطبقات والورثة، مما يتطلب معرفة دقيقة بقواعد الميراث ومقتضيات الوصية الواجبة لتجنب الخطأ في القسمة. -
الاختلاف مع بعض الاتجاهات الفقهية:
إذ يرى بعض الفقهاء أن الوصية للأقارب غير الوارثين تبقى مندوبة لا ملزمة، وأن تحويلها إلى التزام قانوني قد يخرج عن حدود ما ورد في النصوص الشرعية من حيث درجة الإلزام.
تاسعا: أهمية فهم الوصية الواجبة في الممارسة العملية
لا تقتصر أهمية الوصية الواجبة في القانون المغربي على الجانب النظري أو الفقهي، بل لها أثر مباشر في الممارسة اليومية أمام المحاكم، وفي عمل العدول والموثقين والمحامين، وحتى داخل الأسر عند التخطيط للميراث.
فهم هذا النظام يساعد على:
- تجنب النزاعات الأسرية قبل وبعد وفاة الجد أو الجدة.
- ضبط القسمة الشرعية للتركة وفق ما نص عليه القانون.
- طمأنة الأحفاد المحتاجين إلى وجود ضمانة قانونية تراعي وضعهم.
- توجيه المورثين عند تحرير وصاياهم حتى لا تصطدم بما هو واجب قانونًا.
عاشرا: مصادر ومراجع للاستزادة حول الوصية الواجبة
للاطلاع على المقال الأصلي الرسمي الذي تناول موضوع الوصية الواجبة في التشريع المغربي، يمكن الرجوع إلى موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، حيث نشر مقال:
مقال «الوصية الواجبة أو وصية القانون» بمجلة دعوة الحق – العدد 160
هذا المرجع يعد من أهم النصوص الرسمية التي ناقشت الوصية الواجبة من زاوية فقهية وقانونية، ويمكن اعتباره أساسًا معتمدًا لفهم فلسفة هذا النظام في التشريع المغربي.
للمزيد من الملفات القانونية
لمن يرغب في تحميل ملفات قانونية وكتب PDF متعلقة بالقانون المغربي، يمكنه زيارة الصفحة التالية:
تحميل ملفات وكتب قانونية بصيغة PDF
خاتمة
يتضح من خلال ما سبق أن الوصية الواجبة في القانون المغربي تمثل آلية تشريعية مهمة لتحقيق قدر من التوازن والعدالة داخل الأسرة، من خلال حماية حقوق الأحفاد الذين حُرموا من ميراث آبائهم بسبب الوفاة السابقة أو الحكمية، مع احترام ضوابط الشريعة في مجال الوصية وحدود الثلث.
ورغم بعض الملاحظات التي أثيرت حول نطاق تطبيقها وحدود المستفيدين منها، فإن هذا النظام ما زال يشكل أحد أهم المجالات التي تجمع بين الفقه الإسلامي والاجتهاد التشريعي الحديث، وتستدعي مزيدًا من البحث والتطوير بما يحقق مقاصد العدل والتكافل في الأسرة المغربية.